لقد مرت محن و مصائب على المسلمين في الماضي أيام التتار و الصلبيين و غيرهم فكان أجدادنا يواجهون الصعاب و الشدائد بكل إصرار و صمود و ثبات و تضحية و ذلك بما أُودع فيهم من عقيدة قوية و إيمان راسخ و عمل صالح ، كما ابتليت أمتنا الإسلامية و لا تزال بنكبات و هزائم متوالية في القرن الماضي و في بداية هذا القرن غير أن ذلك يجب أن لايفقدنا الثقة بالله عزوجل خالق الكون و الإنسان و الحياة ، و إن النكبات و النكسات التي تنتاب الأمة الواعية لا تضعف من قوتها و لا تفقدها الثقة بنفسها و لا تيأس و لا تقنط بل أن ذلك يحفزها للرجوع إلى الله عزوجل قولا و عملا و أخذا بالأسباب .
الأمل هو حادي العمل و عندما يفقد الإنسان الأمل بالكلية يكون أمام نكسة نفسية يصعب أن يتعافى منها .
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
و لهذا كان أخطر ما تواجهه الأمة هو اليأس الذي يقعدها عن العمل و الإنتاج و ينحرف بمسيرتها عن الصراط المستقيم إلى مفترقات السبل و الأهواء و المضلات و الضياع.
في تعاقب الشدة و الرخاء و العسر و اليسر كشف لمعادن النفوس و طبائع القلوب ما بين غبش و صفاء و هلع و صبر و ثقة و قنوط في تقلبات و تنوع الأحداث يتمحص المؤمنون و ينكشف الزائفون و تتجلى دخائل النفوس و مكنونات الصدور ، و من درى حكمة الله في تصريف الأمور و جريان الأقدار ، لن يجد اليأس إلى قلبه سبيلا ، مهما أظلمت المسالك و قست الحوادث و توالت الـعقبات و تكاثرت النكبات فالإنسان إلى ربه راجع و المؤمن بإيمانه مستمسك و بأقدار الله مسلم و على سننه جار و إن شر ما منيت به النفوس يأس يميت القلوب و قنوط تظلم به الدنيا و تتحطم معه الآمال ، فاليأس قرين الكفر و القنوط بريد الضلال { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف: 87.] {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 56.] ولقد علم أولوا الأبصار و الألباب أن الهموم و المحن لا يقصرها شدة الجزع و لا يزيد في طولها قوة الصبر و الجلد .
إن الوقائع و مداولة الأيام محك لا يخطئ و ميزان لا يظلم و في تقلب الدهر عجائب و في تغير الأحوال مواعظ ، القوي لا يستمر أبد الدهر قويا ، و الضعيف لا يبقى طول الحياة ضعيفا و لكنها سنة الله أدوار و أطوار، تجري على الأمم و الشعوب و تمر بالأفراد و الجماعات و تنتظم المتقين و الفجار و أهل السوء و الأخيار ، فهذا آدم عليه السلام تسجد له الملائكة ثم بعد برهة يخرج من الجنة و إبراهيم عليه السلام أراد به قومه كيدا فكانوا هم الأسفلين و أضرموا نارا لحرقه فكانت بردا و سلاما على إبراهيم ، و هذا الذبيح يضطجع مستسلما ثم يأتيه من عند ربه الفداء و يبقى له الفضل و الثناء، و يعقوب عليه السلام يذهب بصره من ألم الفراق ثم يعود التواصل و التلاق و النظر، و نبينا محمد صلى الله عليه و سلم يتقلب في عجائب المد و الجزر ،و الرجاء و الأمل إلى ان يجئ نصر الله و الفتح و يدخل الناس في دين الله أفواجا، هذا ما كان من أنبياء الله و أوليائه و المصطفين من عباده فما بالك بمن هو دونهم من سائر أهل الأرض .
إن من تأمل صروف الدنيا و رياح التغيير و أمواج التقلبات لا يفجع عند نزول البلاء و لا يفرح بعاجل الرخاء ، و ما يكون في الأفراد يكون في الأمم، فكم من أمة ضعيفة نهضت بعد قعود و تحركت بعد خمود فكم من قرية بطرت معيشتها فزالت بعد وجود ، أذاقها الله لباس الجوع و الخوف لما بدلت الشكر بالكفر و الجحود، و حين يريد ربنا أمرا فإنه يأتي إليه كما يشاء فهو العليم القدير، السبب و النتيجة من صنعه ،و الوسيلة و الغاية من خلقه ،و تدبيره لا يمتنع عليه سبب و لن تعجزه غاية يتحصن المتحصنون فيأتيهم الله من حيث لا يحتسبون و قديما خاطب الله نبيه محمد صلى الله عليه و سلم و المؤمنين ، و خالفت على ما يبدو ظواهر الأسباب و مظاهر السنن { مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ } [الحشر: 2.] لم تكونوا تتوقعون خروجهم فقد كانوا من القوة و المنعة في حصونهم بحيث لا تظنون خروجهم و غرتهم المنعة فنسوا قوة الله التي لا تردها حصون { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } [الحشر: 2.] أتاهم من داخل أنفسهم، من داخل قلوبهم فقذف فيها الرعب، فعلموا أنهم لا يملكون أنفسهم و لا يحكمون قلوبهم في هذا و أمثاله، كم تمر على أهل الحق و الإيمان من أيام حرج و ضيق و ساعات شدة و كرب يواجهون فيها أهل الباطل في إصرارهم و جحودهم، تحيط بهم ظروف الباطل في قوته و كثرة أهله ،و أهل الحق و الإيمان في قلة من العدد و العدة، الباطل ينتفش و يتعاظم و يبطش و يغدر و أهل الحق و الإيمان ينتظرون وعد الحق و يطول بهم الانتظار و تهجس في خواطرهم الهواجس { مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة: 214.] { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف: 110.] ، تلك سنن الله في الدنيا و أهلها في مدها و جزرها في أهل الكفر و الإيمان في الدعوات و أصحابها، شدائد و كروب و مضايق و خطوب ثم يجيء النصر و الانفراج بعد اليأس من ظاهر الأسباب يجيء النصر من عند الله فينجو من يستحق النجاة و يحل بأس الله بالمجرمين مدمرا ماحقا.
كل هذا البلاء و كل هذا الصـبر و التصبر حتى لا يكـون النصر رخيصا
و حتى لا تكون دعوة الحق هزوا و هزلا، فدعوة الحق لا تكون عبثا و لهوا، و لكنها تسير على قواعد و مناهج يكون فبها البلاء و البأساء، و يتخذ فيها الـشهداء و يمحص فيها المخلصون من الأدعياء فيعجزون عن الحمل و تثقل عليهم التكاليف و يطول عليهم الطريق و من ثم يتبين الحق من الباطل على محك الشدائد فيصمد المخلصون و يتميز الصادقون و لو تباطأ النصر ما تباطأ { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } [الأنعام : 34.]
إن الذين ينظرون إلى هذه الحياة بنظرات قاتمة هم أولئك الذين إذا نزلت بهم نازلة أو تكدر لهم عيش أو حلت بهم بلوى، يئسوا من الفرج و طال عليهم سوء الأمل، و ظنوا بربهم ظن السوء و لكن أهل الإيمان موصولة قلوبهم ندية أرواحهم لا ييأسون من روح الله يفيئون إلى ظلال الإيمان و يأنسون بصلة الكريم المنان على الرغم مما هم فيه من مضايق الشدة و مخانق الكروب . { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا } [المائدة : 3 ] فهذه بشارة لأهل الإيمان بحفظ الله لدينه و كماله و رضا رب العالمين عنه و تمام النعمة له، و الكافرون آيسون من أن ينالوا منه شيئا ،غير أنهم قد يغلبون في موقعة أو يهزمون في فترة ولكنهم عاجزون من أن يمسوا هذا الدين، فهو محفوظ لا يناله تحريف، و لا يرقى إليه تبديل و على شدة ما كاد الأعداء و عظم ما أصاب المسلمين من ضعف و بلاء في بعض الأعصار و الأمصار، فلن تزال على الحق طائفة منصورة، تحفظ أمر الله و تنصره و تسعى لإعلاء كلمته، سدد الله الخطى و بارك في الأعمال و حقق الآمال و طرد عنا اليأس و القنوط و الأوهام.
(c) WahdaCo
- Créé à l'aide de Populus.
Modifié en dernier lieu le 15.09.2010-
Déjà 3141 visites sur ce site!